من قتل السعوديين في إسطنبول- قراءة في ثقافة تحريم الفرح

المؤلف: محمد الساعد08.12.2025
من قتل السعوديين في إسطنبول- قراءة في ثقافة تحريم الفرح

الدماء الزكية التي أُريقت بلا حق من أبناء السعودية، تطرح سؤالاً جوهرياً: من هو المسؤول عن زهق أرواح هؤلاء الأبرياء، ومن الذي ساقهم إلى حتفهم؟ فحتى هذه اللحظة، قضى أكثر من اثني عشر مواطناً سعودياً، رجالاً ونساءً، وأصيب العشرات الآخرون في سلسلة العمليات الإرهابية التي شهدتها إسطنبول في العام المنصرم 2016، بدءاً من حادثة مطار أتاتورك المروعة، وصولاً إلى الهجوم على المطعم الليلي الذي وقع قبل أيام قلائل. لا شك أن الإرهابي الآثم الذي ألقى بالقنابل المتفجرة وأطلق الرصاص الطائش على أجسادهم الغضة، والذي تعقبهم حتى في دورات المياه، ولم يرحمهم حتى وهم يحاولون النجاة بأنفسهم بالقفز في مياه البوسفور الباردة الحالكة، ليس سوى أداة خسيسة نفذت الجزء الأخير من مخطط ظلامي بغيض. هذا المخطط يبدأ بتحريم بهجة الحياة، ونبذ كل من يخالفهم الرأي، وتكفير الآخرين المختلفين عنهم، والاستهانة بالدماء المعصومة، واعتبار قتل الأبرياء وسيلة للتقرب إلى الجنة المزعومة. تمعنوا في هذا الفكر المنحرف، ستجدونه يتردد صداه في معظم الأرجاء، ويتغلغل بين الكثير من الناس. لقد تحول هذا الفكر إلى ثقافة ذائعة الانتشار، وسلوك مستحب لدى البعض. تجدونه متغلغلاً في المناهج الدراسية، وفي المجالس الخاصة، وعلى ألسنة بعض الخطباء والوعاظ المتشددين، وحتى بين بعض المدعين الذين يؤيدون هذا الفكر دون وعي أو إدراك، وينقادون وراءه باعتباره الحقيقة المطلقة التي لا تقبل الشك. في اعتقادي الراسخ، أن المسؤول عن مقتل هؤلاء الأبرياء هو من حرم عليهم الابتسامة في وطنهم، ومن دفعهم إلى الفرار شرقاً وغرباً بحثاً عن وميض أمل مفقود. هو من يطلق أتباعه وأزلامه وأبواقه المأجورة، لتحريم الاستماع إلى الأغاني، ومشاهدة الأفلام السينمائية، وحضور العروض المسرحية، وقراءة الكتب المفيدة. هو من يدفعهم للتزاحم والتجمع أمام أبواب المسؤولين، ومن يوجههم لإنشاء حملات الفاكسات والهاشتاقات المسيئة، بهدف إلغاء حفلة متواضعة للفنان محمد عبده، أو مراقبة معرض فني للرسم، أو التشهير بضيف ثقافي يزور إحدى الجامعات التي تعج بالعقلاء والمثقفين. إننا نعيش في كوكب منعزل عن العالم بأسره، كوكب تهيمن على مشاعره وأحلامه فئة من المتشائمين المنبوذين الذين يلاحقون الطلاب المبتعثين والمبتعثات حتى في أقاصي الأرض، ويقيمون عليهم الحساب، ويراقبون سلوكهم، ويعاقبونهم، خشية أن يعيدوا إنتاج مظاهر الحياة العصرية في بلادهم. هم أنفسهم الذين يتربصون بالفتيات العاملات اللاتي يسعين لكسب رزقهن بشرف وكرامة، وهم من يشوهون سمعة الطبيبات والممرضات اللاتي يسهرن على راحة المرضى، ويتهمون أولياء أمورهن بالدياثة والتفريط في أعراض بناتهن. يا له من مواطن سعودي فريد من نوعه، وكأنه مخلوق من طينة مختلفة عن بقية بني البشر! فـ "المنبوذون" لا يريدون له أن يخطئ أو يذنب، بينما الله الرحمن الرحيم، فيما يرويه عنه الرسول الأعظم صلى الله عليه وسلم: "والذي نفسي بيده لو لم تذنبوا لذهب الله بكم ولجاء بقوم غيركم يذنبون فيستغفرون الله فيغفر لهم". شباب ويافعات، وعائلات بأكملها، يتدفقون مع حلول كل إجازة، إلى مختلف مطارات العالم، لكي يلتقوا ببعضهم البعض، بعيداً عن أعين المتطفلين والوشاة، وليقتسموا مع بعضهم لحظات الحياة السعيدة، باحثين عن لحظة فرح نادرة المنال، أو عن ارتشاف كوب شاي، لا يعكره وجود وصي متزمت يعتقد واهماً أن الجنة والنار ملك يمينه. العالم أجمع يحتفل ويبتهج بقدوم العام الجديد، إلا السعوديين الذين يقضون ليلتهم في تناول أطباق الفول والمطبق الشعبية، ويختتمونها بحلوى المعصوب الشهية، ويشاهدون عبر شاشات التلفزيون احتفالات العواصم العالمية التي يمتدحها الحركيون المتشددون، ويكادون يعبدونها، وهي تحتفل بتلك المناسبة التي يعتبرونها محرمة عليهم. غالبية السعوديين متدينون بفطرتهم، ويسافرون من أجل قضاء لحظات أنس بريئة، ومعظمهم لا يسافرون من أجل ارتكاب الفواحش والمنكرات، فهي متوفرة في كل مكان، ومتاحة بأبخس الأثمان لمن يرغب بها، ولا يجدر بنا أن نحجب ضوء الشمس الساطع، فالصحف والمواقع الإخبارية مليئة بتلك الأخبار، ولا داعي لتكرارها على مسامع الناس. لا نكاد ننتهي من مطاردة المهنئين برأس السنة الميلادية، حتى نبدأ بعد شهرين بمطاردة من يُحتمل أن يرتدوا الملابس الحمراء في عيد الحب، وكنا قبل شهرين نطارد المحتفلين بالمولد النبوي الشريف، وقبلها المهنئين بحلول رأس السنة الهجرية، بل وصل بهم الحال إلى أن يعتلوا أعتاب العيد، ليهاجموا ويشنعوا على كل من يجرؤ على تهنئة أحبابه قبل صلاة العيد. لقد أصبحت حياتنا سلسلة متصلة من القضايا التعيسة، التي تتناسل وتتفرع الواحدة تلو الأخرى، ولا هم لها إلا قتل الفرح، ونشر الإحباط واليأس، والانقضاض على أية بادرة أمل تلوح في الأفق. نفس هؤلاء الرهط يذهبون خفية متسللين، إلى المنامة ودبي وبيروت وأغادير، لكن صنعة "الاستشراف" المزيفة، تدفعهم إلى وأد مظاهر الحياة العصرية هنا، والاستمتاع بها هناك.

سياسة الخصوصية

© 2025 جميع الحقوق محفوظة